مضت تتهادى على العشب الأخضر بقامتها السمراء الطويلة، وملابسها الأنيقة، مدركة أن الأنظار ترنو إليها، تتبادل الابتسامات والتحيات. بدت فخورة بنفسها وهي المرأة القادمة من بلد بائس تطحنه الحروب منذ عقد ونصف، تحظى بكل هذا الاهتمام وسط تجمع السياسيين والأثرياء ورجال الأعمال والناجحين في مجال تقنية الاتصال والمعلومات، الذين تجمعهم مجلة "فورتشن" كل صيف في منتجع "أسبن" الجميل على سفوح جبال الروكي الأميركية في مؤتمرها السنوي الشهير. إنها "إيان حرسي علي" العضوة في البرلمان الهولندي، المثيرة للجدل، والتي اشتهرت بتهجمها الصريح على الإسلام بل حتى على نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام. وأحسب أن هذا للأسف سبب الاهتمام بها لدى بعض الدوائر في الغرب، فبعد أوروبا التي صالت فيها وجالت وتحولت خلال عقد واحد من لاجئة صومالية إلى عضوة في البرلمان الهولندي ونجمة إعلامية، جاء دور أميركا، وها هي تستهل نشاطها في الولايات المتحدة كضيفة شرف في المنتدى المرموق. لم أخفِ ضيقي بهذا الاهتمام لواحدة من منظِّمات المؤتمر قائلاً لها إن كان هدفهم هو إبراز امرأة مسلمة تدافع عن حقوق بنات جنسها، فلقد أخطأوا العنوان. جاء الرد كما توقعته، وهو أن مجلة "فورتشن" لا توافق على كل آراء السيدة حرسي، ولكنها ناشطة معروفة وسياسية بارزة وتستحق أن يُسمع منها. ولكن الحقيقة أن السيدة "حرسي" ليست رائدة في بلدها أو زعيمة لتيار إصلاحي، وغير مستعدة لأن تحمل رسالتها الإصلاحية إلى أهلها ومن تحب، هذا إذا كانت لديها رسالة إصلاحية لأهلها، وبقي لها في الصومال ما تحب ومن تحب. وأعجبتني نصيحة سيدة الأعمال السعودية لبنى العليان التي حاورت الناشطة الصومالية الهولندية قائلة لها: "ما فائدة أن تحظيْ بكل هذا التصفيق والاهتمام هنا خارج وطنك، إذا كان أهلك لا يطيقون أن يستمعوا لكِ". نعم، إن الإصلاحي الحقيقي هو الذي يكون له تأثير واحترام بين أهله، أو على الأقل بين بعض أهله، أما السيدة "حرسي علي" فلا تستطيع حتى أن تفتح مدرسة أو توزع دواء على بنات جنسها في وطنها، ذلك أنها قطعت كل حبال الود والتواصل معهم عندما شتمت دينهم وأساءت لنبيهم. وهذه هي الرسالة التي أتمنى أن يسمعها أولئك الذين يستعدون للاحتفال بـ"حرسي علي"، وتنظيم جولات لها ومحاضرات في الولايات المتحدة وعلى رأسهم معهد "أميركان أنتربرايز"، الذي تحل عليه كباحثة طوال العام الجاري. ولكن الحديث مع المعهد المذكور أشبه بالنفخ في القربة المخرومة، واستضافته لـ"إيان حرسي علي"، تعزز الانطباع السائد عنه بين العرب والمسلمين بأنه مُعادٍ وغير معني بالإصلاح في العالم الإسلامي. إنه واحد من مراكز القوى لغلاة "المحافظين الجدد" المعنيين فقط بالتأكيد على حتمية الصراع بين الغرب والإسلام، ويبحث عمن يؤكد لهم هذا الزعم. وهناك حاجة لنشاط يواجهه لا يأتي فقط من المسلمين بل حتى من الأميركيين المؤمنين بحتمية التعايش بين الإسلام والغرب، وأن بينهما من التوافق والشبه أكثر مما بينهما من الاختلاف، كما قال مفتي سراييفو الشيخ "مصطفي سيرتش" في مشاركته في افتتاح المؤتمر، فانتزع تصفيقاً وترحيباً من الحضور أكثر مما حصلت عليه "حرسي علي" في كلمتها من بعده، مما يعني أن الغالبية لا تزال تفضل التوافق بين الحضارات على المواجهة. ولكن المشكلة أن البعض يعتقد أنها "مسلمة شجاعة وقفت في وجه عالمها المتعصب الذي لن يرحمها لو أتيحت له الفرصة"، وكأنها أرادت أن تحمل هذه الرسالة الخاطئة معها وهي تتجول في المؤتمر وحولها حارسان هولنديان. ورغم تقديري الكبير لمجلة "فورتشن" ومؤتمرها السنوي والذي وجدته حريصاً على الاستماع للعرب والمسلمين، ولكنني كمسلم وجدت في احتفائهم بـ"إيان حرسي علي" إساءة للمسلمين، كما لو قامت المنظمة العربية الأميركية لمكافحة التمييز، التي عقدت مؤتمرها السنوي قبل أسبوعين في واشنطن بدعوة المؤرخ البريطاني "ديفيد إيرفينج" المشكك في حصول المحرقة كضيف شرف. تخيلوا مجرد حصول ذلك ورد فعل المنظمات اليهودية الأميركية، بل حتى الإدارة الأميركية نفسها. أما نحن العرب والمسلمين فنزعم أننا أكثر تهذيباً ولطفاً، ولكننا في الحقيقة أضعف من أن نحتج على مجلة ذات نفوذ، تحتفي بمن وصفت الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً ما بما لا يليق من الأوصاف والنعوت. بل إن "فورتشن" ذكرت في السيرة الذاتية لـ"إيان حرسي علي" والتي وزعتها في المؤتمر أنها "أدانت الإسلام" بعد 11 سبتمبر، في معرض إنجازاتها! وهي جملة لن يوافق عليها حتى عنصري بغيض مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتانياهو، على الأقل علناً. لدينا مشكلة مع بعض المؤسسات الأميركية القريبة من "المحافظين الجدد" والمنظمات اليهودية الحريصة على تشويه الإسلام، ولكن يجب أن نعمل لمنع أن تنتقل هذه المشكلة إلى المؤسسات المعتدلة والمنظمات الدولية، وذلك بعدم الغياب عن أنشطة هذه المؤسسات ومؤتمراتها. ولعل هناك فائدة في التذكير بخطابات هادئة لتبيان الحقائق دون ضجيج أو وعد ووعيد، فلا نريد أن يتحول هؤلاء إلى "أبطال". فأمثال "حرسي علي" كثيرون، وباتت تأشيرة مرورهم إلى أضواء الإعلام والمؤتمرات في الغرب تكمن في كتاب أو مقالة تهاجم الإسلام ومقدساته، ثم كلمة أمام منظمة صهيونية يعبرون فيها عن حبهم لإسرائيل وأنهم يتفهمون حقها التاريخي في "احتلال فلسطين"، وجملة أخرى من نوع "كنت يوماً أكرهكم"، مثلما فعلت السيدة "حرسي" أمام اللجنة اليهودية الأميركية بعد منحها جائزة لـ"شجاعتها الأخلاقية" في مايو الماضي! بعد ذلك يزعمون أنهم خائفون مضطهدون في مجتمعاتهم ليجدوا صدوراً تحتضنهم وتحنو عليهم. أعجبتني لامبالاة المسؤولين في مصر عندما عقد في شرم الشيخ المؤتمر الصيفي للمنتدى الاقتصادي العالمي في مايو الماضي وزج بالسحاقية البنغالية "إرشاد منجي" بين ضيوف المؤتمر رغم أنه ليس لديها ما تقدمه غير تكرار كلام سخيف عن اضطهاد الإسلام والمسلمين للمثليين جنسياً، ولم يتطوع سياسي مصري غاضب للاحتجاج على حكومة بلاده على استضافتها ثم يصرخ شاجباً مستنكراً على شاشات التلفزيون و"منبر من لا منبر له"، فيخدم قضيتها وقضية من زج بها في المؤتمر ليظهر الإسلام والمسلمين كما يريد متعصبين متشنجين، دون أن يدري، فجاءت ورحلت دون أن يشعر بها أحد. وأذكر أنني رأيتها على مأدبة عشاء مع بعض من الأوروبيين في أحد فنادق القاهرة بعد انتهاء المؤتمر ولم يكن معهم أي مصري واحد فحسناً فعلوا أن تجاهلوها. إن الرسالة التي يجب أن تصل إلى المنظمات الغربية هي أنه إذا أحسنا الظن بزعمكم أنكم راغبون في تحسين الأوضاع في العالم الإسلامي، فيجب أن تتواصلوا مع من لهم جذور في مجتمعاتهم، وليس المنبتِّين، الذين اختاروا أن يكونوا مجرد صدى للكارهين للإسلام في الغرب، فهؤلاء لن يكونوا جسوراً للتواصل وإنما أدوات للمواجهة.